التضافرُ الإشكالي بين سطوة الحياة وعنفوان الموت.. ملامح الخطاب الروائي في أيام بغداد للجيزاوي

د. كاميليا عبد الفتاح

أستاذ الأدب والنقد المساعد جامعة الباحة بالسعودية (سابقًا)

حين تتضافر مناخات الحرب والحب والموت في العملٍ الروائي، ينشطُ شغفُ الناقد في البحثِ عن الدلالات المُضمرة في هذا التضافر، والكشفِ عن ملامح الخطاب الروائي ومقومات المسار الدرامي في هذا العمل، ونحنُ نطالعُ هذا التضافرَ في رواية أيام بغداد للكاتب الروائي خليل الجيزاوي، دار المعارف للنشر والتوزيع  بالقاهرة 2020م، التي تُواجهنا بصفتها أيامًا تبرزُ فيها الحربُ العراقيةُ الأولى بوابةً للموت، ومُفتتحًا للحياة والرزق، وسببًا لالتقاء العشاق، وذلك عبر أحداث تستغرقُ سبعة فصول، يشيرُ عددها إلى ما استقر في التراث الإنساني – والموروث الشعبي – من الدلالة على الخلق والتكوين.

المتن الحكائي ومكابدات شخوص الرواية

يدور المتنُ الحكائي في الرواية حول “محمد” الطالب في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب الذي يسافر للحصول على فرصة عمل في العراق – في إجازة الصيف –  لفراغ أسواق العمل من الرجال الذين تم تجنيدهم في الحرب ضد إيران، يُسافر محمد مع زميليه في الدراسة، ويمرّ بسلسلة من التجارب الإنسانية التي تُصور دقائق الشارع العراقي أثناء الحرب، وتصور – في الوقت ذاته – تفاصيل الحياة النفسية والمكابدات المعيشية للمصريين العاملين هناك، تنتهي أحداثُ الرواية بعودة محمد – في نهاية الإجازة الدراسية – وحيدًا دون زميليه؛ حيثُ قُتِلَ أحدهما بسب عشقه، وتزوج الآخر من فتاة عراقية بما أدى إلى حصوله على الجنسية العراقية، وتجنيده في الحرب، أمّا محمد فقد نشأت قصة حبٍ بينه وبين ابنة صاحب الفندق – الذي عمل فيه مديرًا – بما أوقفه في منطقة الاختيار المصيري، ما بين الرغبة في العودة  استجابة لمشاعر حبه – وحفاظًا على فرصة عمله –  وبين الخوف من هذه الاستجابة حتى لا يلقى مصير زميلي الرحلة وتنتهي الرواية بوقوفه في منطقة الحيرة.

بدت الحربُ عصبَ التجربة الإنسانية – في الرواية – حيثُ  طرحها الساردُ بوابةً للحياة – حيثُ كانت سببًا لفتح أسواق العمل للمصريين في العراق – وبوابةً للحب أيضًا – من حيثُ  كانت سبب التقاء العشاق – كما طرح الحرب – في الوقت ذاته – بوابةً لموت الرجال وشتات العائلات، الحربُ – وفق هذا الطرح – هي الحدثُ الذي أسند إليه الساردُ التعبير عن المفارقة المأساوية التي تنتظمُ حياتنا الإنسانية؛ ومن هنا يلاحظُ المتلقي حضور مفردةُ “الحرب” وسطوةَ مناخاتها على هذه الرواية منذ صفحاتها الأولى؛ حيثُ بدت الهاجس المسيطر على وعي السارد وإشاراته للمصير الذي ينتظر شباب المصريين، يقول: “الشمسُ الحارقةُ تصبّ سعيرَها على أهل الأرض الذين كفروا بهذا الوطن الكاره لأهله والذي يرميهم للعراق، يقذفُ بهم في أتون جهنّم وبأوراقٍ رسميةٍ، والحربُ مشتعلةٌ على البوابة الشرقية ووقودها الفقراء، تمامًا مثل هذه الطوابير المُترنّحة ذات الوجوه الصفراء المُتعبة”. رواية أيام بغداد ص 5 و6 .

الفقراءُ وقودُ الحرب – في الطرح السابق – كما أنّ طوابيرهم المترنحة أمام السفينة طوابيرٌ تسافر – بأوراق رسمية – للموت في هذه الحرب، وتُطالعنا الحربُ في ختام الرواية – كما طالعتنا في بدئها –  إشكاليةً  توقفُ محمد موقفَ المتردد أمام فكرة الزواج  بحبيبته “ضُحَى”،  والمتردد – أيضًا – أمام  فكرة الرجوع لعمله في العراق.

يسوق السارد هذا المونولوج على لسان “محمد”، يقول: “لا أنكر أني معجبٌ بها؛ لكن موضوعَ الزواج من امرأةٍ عراقيةٍ حاليًا صعب جدًا، معناه سحب جواز السفر، وبعد الزواج بشهرٍ واحدٍ تجد نفسك على جبهةِ القتال، تحاربُ في معركة قادسية صدّام”. الرواية ص 247

وهكذا هيمنت فكرةُ الحرب على وعي السارد في بدء الأحداث وختامها إبرازًا لإشكاليتها وقدرتها على إيقاف مسارات الحياة، على صعيد آخر، كان  تكرارُ الإشارة إلى الأغنية العراقية: “العراق العراق .. إحنا مشينا للحرب” – على مدار صفحات الرواية – بمثابة تنبيهٍ إلى أنّ الحرب قد تجاوزت – في هذا الطرح – حدود الإطار، أو المناخ العام للأحداث؛ فكانت مصيرًا يُطاردُ الذات الجمعية – التي رُمز إليها بشباب العراق وشباب مصر – وكيانًا يختزنُ المفارقة بين دلالتي الموت والحياة، بما تمظهرَ في مصائر الشخصيات، ما بين القتل في الحرب، والبقاء رهن احتمالية القتل، والوقوف في منزلة بين المنزلتين، بما تمثّل في تأزّم  الشخصية الرئيسية – محمد – الذي احتُجز – نفسيًا – في مواجهة الحب والحرب مُتضافرين معًا كاختيار واحد، لا فاصل بينهما.

ثنائية الموت والحياة والخطاب الروائي

هيمنت ثنائية الموت والحياة على طبيعة الخطاب – في الرواية – باعتبار أنّ الخطاب كما يذهب د. سعيد يقطين – في مقاله حول أساليب السرد الروائي العربي – “يضمُّ مجمل العناصر التي تُسهمُ – مجتمعةً – في تشكيل عالم المادة الحكائية، وتقديمها من خلال مختلف مكونات العمل السردي”، وقد طالعتنا هذه الثنائية في توظيف “السفينة” معادلًا استعاريًّا يحملُ هذه الدلالة؛ حيثُ شبّهها الساردُ بسفينة نوح، وبالقبر الجماعي – في وقتٍ واحد – وذلك في قوله:

 “بدت السفينةُ العملاقةُ الرابضةُ بجوار الرصيف كسفينة نوحٍ، ومع ذلك بدا الشكُّ يدخلُ قلبه، وهو ينظرُ للطوابيرِ الطويلة التي تتلوى بملل الانتظار مرة، ثم ينظرُ ناحية بطن السفينة المفتوح مثل قبرٍ جماعي ٍ كبيرٍ وهائلٍ مرة أخرى”. الرواية ص 5، وقد ترددت هذه الدلالةُ ذاتها في موضعٍ آخر على لسان السارد العليم، واصفًا موقف محمد عند اقترابه من السفينة: “يا ألله .. قالها عندما اقترب من بطن السفينة المفتوح مثل كهفٍ أسطوري أو قبر جماعيٍ كبير كبير”. الرواية ص 6، لم تقف وظيفة المعادل الاستعاري – في هذه المواضع – عند حد الإشارة الدلالية، بل اضطلعت بإيذان المُتلقّي – وتنبيهه – إلى تضافر الحياة والموت في  المسار الدرامي لهذه الرواية.

وفضلا عن دلالة المُعادل الاستعاري، فقد انتشرت مظاهر التضافر بين دلالتي الحياة والموت على مدار أحداث هذه الرواية؛ حيثُ توالت اللقطات – والبورتريهات – التي امتزجت فيها تناقضات الحياة الإنسانية: الاغتراب والدفء، الخوف والائتناس، شقاء العمال المصريين تحت جحيم الشمس وجلساتهم الضاحكة في لعب الكوتشينة، أخبار شهداء العراق وابتهالات العراقيين أمام مساجد الأئمة، الخوف والفزع والحب والعشق معًا، بل لقد تجاورت – وتضافرت – على مدار الرواية – أغاني العشق جنبًا إلى جنبٍ عويل النساء على شهداء الحرب، وقد برزت المرأةُ في هذا الطرح – وفي سياق هذه الثنائية – كيانًا يرمزُ للحب والصبر والامتثال والحياة، فقد طالعتنا المرأة العاشقة في أكثر من نموذج: ضُحَى، كريمة، سوزان، فضلا عن النماذج الإيجابية الأخرى متمثلة في بائعات الخبز، وبائعات اللبن، وغيرهن ممّن مثّلن المثابرة ورمزن لقدرة العراق على مواصلة الحياة، كما مثلت شخصية الأم المصرية قدرة الذات الجمعية على الصبر والاحتمال ومكابدة الحياة. 

توظيف الشخصيات

لن نتوقفَ – في هذه الرؤية النقدية – عند طرائق تقديم السارد للمكونات الوصفية للشخصيات – وقد تنوعت ما بين  الوصف الذاتي والغيري  والحوار والمونولج  والبورتريه – بل سنشير إلى توظيفه لوصف الشخصيات للتعبير عن رؤيته للتضافر بين الحياة والموت؛ إذ نلاحظُ احتفاءه بوصف الجموع البشرية – خاصة جموع المسافرين – مُبْرِزًا المفارقة بين إعيائهم وافتقاد ملامحهم للحياة، وبين اصطفافهم في طوابير المسافرين بحثًا عن فرصة للحياة، وقد أخضع هذا الوصف لأسلوب التكرار إيغالا في إبراز هذه المفارقة، من ذلك قوله في وصف طوابير المسافرين:

“طوابير المسافرين تتمددُ بطول الرصيف وتتلوى من طول الانتظار”.  الرواية ص 5

وقوله: “طوابير طويلة تتلوى بملل الانتظار”. الرواية ص 5

ويصفُ هذه الطوابير في موضع آخر بأنها “الطوابير الهائلة”، وفي موضع تالٍ بأنها “الطوابير المترنحة”، ويصفُ حركتها البطيئة – التي تجسد عذابها وإعياءها – “وهي تصعدُ للسفينة وتختفي في بطنها”،  ويصورها يقوله:

“كأنه طابور يوم الحشر العظيم”. الرواية ص 6

يُقدمُ الساردُ هذه الجموعَ  مُحتفيًا بمناخاتهم النفسية ووضعيتهم المجتمعية التي دفعتهم لهذه الرحلة، يقول: “وجدَ الميناء يمتلئُ بالمسافرين، ناس من كل المحافظات، من بحري، من قبلي، طلبة جامعات، عمّال بناء وفلاحين، وجوه سمراء، وجوه صفراء تقرأُ المرض في عيونهم، ومع ذلك خرجوا جميعًا عازمين على السفر وكأنهم لم يسمعوا بأغنية نادية مصطفى: سلامات .. سلامات. وتتردد مفردة “الخروج” مرة أخرى في وصف سفر هذه الجموع، فيقولُ الساردُ: 

“خرجوا يبحثون عن الرزقِ بعد أن ضاقت عليهم سبلُ العيش الكريم في مصر المحروسة، خرجوا جميعًا كأنه يوم الخروج الكبير، تفحّصَ الوجوه المسافرة مُنزعجًا، وراح يسألُ نفسه بمرارةٍ: هل ضاقت مصرُ بأولادها، أم تزوجت برجل آخر غير أبيهم؛ فطردَ أولاد زوجته الأولى للخارج؛ ليواجهوا الموتَ الباردَ في بلاد الغربة والوجع، مُستغربًا رددَ:

“يا ألله .. دي مصر كلها مسافرة للعمل في محافظات العراق”. الرواية ص19

 ويقولُ في موضعٍ آخر عند وصول السفينة إلى ميناء العقبة:

“ومرة أخرى هاله كمّ البشر الذين غادروا السفينة، إلى جانب الكثير من الباصات والسيارات الخاصة التي خرجت من بطن السفينة”. الرواية ص 33

ويرصدُ الساردُ العليم مكابدة هذه الجموع في مطاردة فرص العمل، ويتخذ من الشخصية الرئيسة – محمد – عينًا لهذا الرصد، يقول: “المئات يفترشون الأرض في انتظار عمل لهم، فيخرجُ منهم عشرة أو عشرون رجلا كل يوم، ويرجعُ الباقي للعب الكوتشينة”. الرواية ص 60 و61

خاصية الاسترجاع وزمن السرد

ارتكز الساردُ على خاصية الاسترجاع – التي أطلق عليها جيرار جيينيت “ذاكرة النَّص” – فدفع  شخصيته الرئيسة إلى الاسترجاع الخارجي – الذي يتعلقُ بأحداث لا تندرج تحت زمن الحكاية الأولى – فقد استعاد “محمد”  بعض ذكرياته المؤلمة في مصر – في أكثر من موضع – كما دفعه الساردُ  إلى لحظات الاسترجاع في أكثر من مرحلة مفصلية من مراحل رحلته إلى العراق، من ذلك: لحظة ركوبه السفينة، ولحظة ركوبه السيارة التي أقلته من بغداد إلى النجف في العراق، وقد ترددت هذه اللحظات الزمنية على مدار الرواية، وتقاطعت مع زمن الأحداث الرئيسي فيها؛ إلى الحد الذي تساءل فيه السارد عن سبب استرجاعه هذه الذكريات المريرة، ثم طرح إجابة تحملُ وجهًا من وجوه الدلالة التي قصد إليها من توظيف هذه الخاصية، حيثُ يقول: “هل راح يُذكر نفسه أنّ طريق سفره الجديد إلى بلادٍ بعيدة لن يكون بأية حال أحسنَ من أيامه الماضية؟!” الرواية ص 9، تتجاورُ هذه الدلالة – التي افترضها الساردُ – مع دلالات أخرى، منها ما اتضح في نهاية الأحداث، وأعني: الانشغال بالوطن والإشفاق من فكرة الابتعاد عنه، وقد تجسدت هذه الدلالة – تحديدًا – في لحظات وصول محمد إلى مطار القاهرة، وإعلانه الاشتياق إلى كل شيء في مصر – جميلا ومريرًا – ومن هنا بدت خاصية الاسترجاع دالة على تصدع الشخصية الرئيسية بين مشاعر الانتماء للوطن، وحتمية الرحيل عنه بحثًا عن حياة كريمة، لا يملك هذا الوطن توفيرها.

من خلال هذه الوقفة النقدية، نستطيع القول إنّ أيام بغداد – وهو عنوان الرواية – كانت أيامًا في مواجهة الحرب ومحاولة الظفر بالحياة؛ ومن هُنا وُصِفَ اليوم الأول للسفر بأنه “يوم جديد ونهار حار لافح طويل”، كما كانت أيامًا تُحاولُ فيها الحربُ استلابَ الحب، ويُحاولُ الحبُّ فيها النجاة من الموت، وقد وظَّفَ الساردُ ثلاث مجموعات من الأغاني لتجسيد هذه الدلالة، دارت حول موضوعات: الحب، الحرب، السفر، وبدا تقاطعُ هذه الأغاني مع الأحداث نوعًا من التفاعل الدلالي بين كلماتها وبين المناخات النفسية للشخصيات والأحداث، بما أبرزَ الصراع بين الموت والحياة/ الحرب والحب/ الاغتراب والوطن، وقد ترددتْ أغاني الحب بمُعدَّلٍ يفوق غيرها من الأغاني – على مدار أحداث الرواية – بما يدلنا على انحياز السارد لقدرة الحب على مواجهة مكابدات الحياة وأفخاخ الموت الماثلة في الحرب، وقد تصدّرت أغاني سعدون جابر هذه المجموعة – أغنية مشوارك وأغنية أريدك – فضلا عن أغنية ناظم الغزالي “ميحانة” التي طرحها السارد مُفعمةً بمناخات قصتها الشعبية ومأساة العاشقين فيها.

 على صعيدٍ آخر تصدّرت أغنية: “سلامات سلامات” – والتي تُغْرِي المغتربين بالبقاء في الوطن – اللحظات الأولى من أحداث الرواية، بينما طالعتنا كلمات أغاني سعدون جابر في لحظات الختام لتشير إلى ما سيمثله الحب من تأزم الشخصية الرئيسة واضطرابها في اختيار القرار، أمَّا أغنية: ” العراق .. العراق .. احنا مشينا للحرب”، فقد بدت وكأنها نغمةٌ أساسية في الإيقاع الدرامي للأحداث؛ حيث ترددت أكثر من ثلاث مرات، بما يتسقُ مع أجواء الحرب التي بدت سطوتها واضحة على المبنى الحكائي طوال أحداث الرواية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى