موسى والخضر

الكاتبة مروة محمد مصطفى | القاهرة
خطب موسى ــ عليه السلام ــ في بني إسرائيل في أحد الأيام، فسأله أحدهم عن أعلم أهل الأرض، فأخبرهم بأنّه هو أعلم من في الأرض؛ لكونه رسولَ رب العالمين، فأراد الله عزَّ وجلَّ أن يبين لموسى عليه السلام أن هناك مِن العباد مَن هو أعلم منه، ولذلك أمره أن يسير إلى مجمع البحرين ليلتقي فيه مع ذلك العبد العالم، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} (الكهف:60).
سأل موسى ربه كيف يصل إلى هذا الرجل الصالح؟ فأمره الله عزَّ وجلَّ أن يحمل حوتًا فى مكتل، ويسير فى البحر فإذا جاءت اللحظة التى تعود فيها الحياة للحوت ويقفز فى البحر فسوف يجد هناك هذا العبد العالم.
انطلق موسى عليه السلام بعدما أخذ الحوت فى المكتل وأخذ معه فتاه يوشع بن نون الذى صار نبيًا بعده، وحمل الفتى السلة التى فيها الحوت وانطلقا ليبحثا عن هذا الرجل العالم، وليس لديهم أي علامة على مكان هذا العالم سوى فقد الحوت، وعندما وصل موسى وفتاه يوشع إلى صخرة كبيرة بجوار البحر وقد أصابهما إرهاق السفر، نام موسى وبقى يوشع سهرانًا يحرسه، وفجأة ساقت الرياح موجة عالية على الشاطئ، فجاء رذاذ الماء على الحوت فدبَّت فيه الحياة وقفز إلى البحر، وكانت عودة الحياة إلى الحوت وهروبه إلى البحر علامة أعلم الله بها موسى ــ عليه السلام ــ لتحديد المكان الذى سيجد فيه هذا العالم الجليل الذى جاءه موسى ليتعلم منه.
نهض موسى من نومه ولم يعرف أن الحوت قد دبت فيه الحياة وهرب إلى البحر، ونسى فتاه يوشع أن يخبره بما حدث وواصلا طريقهما، ثم تنبه الفتى أن الحوت دبت فيه الحياة وهرب إلى البحر ذلك عندما كانا عند الصخرة، وأخبر نبي الله موسى بما حدث، أحس موسى بسعادة غامرة عندما علم أن الحوت هرب إلى البحر{قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا}.
عاد موسى وفتاه يبحثان عن المكان الذى هرب فيه الحوت، وبعد بحث طويل وصل موسى إلى المكان الذى هرب فيه الحوت فى البحر فوصلا إلى الصخرة التى ناما عندها وهناك وجدا رجلًا مُسجَّى بثوب، قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} (الكهف:65).
التقى موسى عليه السلام بالخضر، ودار حوار بينهما، طلب فيه موسى أن يرافق الخضر كي يتعلم من علمه، وفي هذا تواضع شديد منه عليه السلام، يقول عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} (الكهف: 65 ــ 70).
وهُنا اشترط الخضر على سيدنا موسى شرطًا من أجل أن يكون فى صحبته؛ أن لا يسأله عن أي شيء حتى يحدثه هو عنه، وافق موسى على هذا الشرط، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُمْ بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ قَدْ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا. قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ؟! قَالَ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا.
ومرة أخرى يسير موسى مع الخضر ــ عليهما السلام ــ فَبَيْنَما هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فثار موسى وظل يسأل الخضر: ما ذنب هذا الغلام وما جريمته حتى تقتله؟!، ذكَّر الخضر موسى للمرة الثانية بالعهد الذى أخذه عليه {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا}، قَالَ موسى: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنْ الْأُولَى إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا.
وللمرة الثالثة والأخيرة، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ مَائِلا، فَقَامَ الْخَضِرُ فَأَقَامَهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا؟! قَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ. سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا.
بدأ الخضر يكشف لموسى أسرار تلك الأشياء والأفعال التى كان يتعجب منها، فأخبره أولًا عن أمر السفينة التى خرقها أنه فعل ذلك لأن الملك الظالم الذى كان يحكم البلاد فى ذلك الوقت يستولى على كل سفينة سليمة خالية من العيوب فأراد الخضر أن يخرقها حتى يتركها الملك ثم يصلحها أصحابها بعد ذلك، وبذلك يكون مصدر رزق هذه الأسرة كما هو فلا يموتون من الجوع، كما ورد في سورة الكهف على لسان الرجل الصالح، قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}.
ثم أوضح له السر فى قتل الغلام بأنه طُبع كافرًا وأنه كان سيرهق والديه عندما يكبرا وسيكون عاقًا لهما؛ فكان موته رحمة لهما وسيرزقهما الله (عزَّ وجلَّ) غلامًا بدلًا منه يرعاهما ويُحسن إليهما فى سن الشيخوخة والضعف، قال تعالى: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}.
ثم أخبره عن الجدار الذى بناه بدون أجر، فكان تحته كنز لغلامين يتيمين فى المدينة وكان الجدار يكاد أن يسقط، فلو سقط الجدار لظهر الكنز الذى تحته فأخذه أهل القرية البُخلاء ولم يستطع الغلامان أن يحصلا على كنزهما؛ لذلك بنى الجدار ليحفظ لهما كنزهما حتى يكبرا فيستخرجا الكنز بإذن الله، ولما كان أبوهما صالحًا فقد نفعهما الله بصلاحه فى طفولتهما وضعفهما، فأراد ربهما أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته، قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}.
وأخيرًا، أوضح الخضر لسيدنا موسي عليهما السلام أن هذا كله لم يفعله من تلقاء نفسه وإنما كان ذلك كله بوحي من الله عزَّ وجلَّ، ثم أختفى هذا العالم العابد بعد أن تعلم منه موسى ألا يغتر بعلمه فإنه فوق كل ذى علمٍ عليم، كما تعلم منه ألا يتسرع ولا يتكلم إلا بما يعلم.