حوار: الباحث والروائي السوري د. نزار أباظة مع الإعلامي وحيد تاجا
– الرواية عن دمشق جزءاً من عقلي ونفسي وقلبي..
– تقصدت موت بطلة “العيون السود” لأن الصهاينة يقتلون أحلى ماعند الفلسطينيين وأعز ما لديهم
– رواية (الطوشة ـ قصة ماري وعائشة) تحكي عن فتنة 1860 بدمشق
– الحيادية قضية لا يتحلى بها إلا القليل من الكتاب
– رواية “سمية” تتناول بالنقد العلاقة العاطفية بين المريدة والشيخة
– الواقعية هي السمة البارزة في أعمالي الروائية
ضمن سلسلة (عُلماء مكرمون) ..صدر حديثاً عن (دار الفكر بدمشق ودار الفكر المعاصر في بيروت ودبي)كتاب قيم عن الباحث والأديب السوري د. نزار أباظة. وكانت دار الفكر بدمشق قد اختارت د. أباظة شخصية العام الفكرية والثقافية عام 2021. وتضمن الكتاب، الذي جاء في 375 صفحة من القطع الكبير عدد من البحوث والمقالات مُهداة إلى د. أباظة، شارك في كتابتها لفيف من الأدباء والكتاب، منهم: الأستاذ محمد عدنان سالم. د.مازن مبارك، د. وليد قصاب، د. كونراد هيرشلر، أدهم فادي الجعفري..وغيرهم. كما صدر في ذات الوقت روايتان للاديب أباظة بعنوان (الطوشةـ قصة ماري وعائشة) و(الوجوه الأخرى). ويذكر ان الدكتور نزار أباظة أديب موسوعي فهو باحث ومحقق وروائي وأستاذ جامعي، صدر له ما يزيد عن 70 كتاباً ما بين تحقيق ودراسة وسيرة وتراث وروايات وقصص للأطفال. حاصل على عدة جوائز محلية وعربية..بمناسبة صدور الكتاب التقيناه وكان هذا الحديث حول أدبه ورواياته وكتبه.
* هل يمكن إعطاء لمحة عن البدايات..ومن هم الكتاب الذين تأثرت بهم؟
لكل امرئ في حياته بداية وقد وضع الله في طريقي أيام دراستي في المرحلة الإعدادية رجلاً جمعتني معه مصادفات ما عرفت قيمتها إلا فيما بعد. كان هذا الرجل أمين المكتبة في مدرستنا، شجعني بشكل خاص لمعرفته بأسرتنا وجعل ينتقي لي الكتب واحداً بعد آخر. دفع إلي أولاً كتاب النظرات للمنفلوطي وقال لي: سوف أختبرك بعد قراءته، مما دفعني إلى أخذ المسألة على محمل الجد، وتكررت إعارته للكتب ورأيت فيها ما يفيد. ثم أغراني هذا باقتناء الكتب فصرت أطوف على المكتبات أنتقي ما أريد بحسب الإمكان. وكان أن قصدت مكتبة أطلس في الصالحية لصاحبها سمعان حداد، فدلني موظفوها على سلاسل للشباب جذابة، منها سلسلة أولادنا التي تقدم قصصاً عالمية وجدت فيها متعة واقتنيت أكثرها؛ ثم تُوسعت في زيارة المكتبات لما صرت في المرحلة الثانوية فكنت أقصد مكتبة دار الفتح ودار الفكر وكانتا أكبر مكتبتين آنذاك، ولم أقتصر فيهما على الانتقاء بل صار القائمون عليهما يرشدونني إلى الكتب المهمة إضافة إلى تزويدي بالفكر والتوجيه من أصحابهما مما نفعني في مثل سني آنذاك. وهكذا صارت القراءة هي التوجه الأساسي لدي. وبدأت أنشئ مكتبة لي في البيت. قرات للعقاد والمازي وطه حسين والرافعي وتوفيق الحكيم ومحمد عبد الحليم عبد الله ونجيب الكيلاني ونجيب محفوظ وعلي أحمد باكثير وكتب الهلال وروايته ومحمود تيمور وأحمد حسن الزيات وأحمد أمين وعلي الطنطاوي وغيرهم..انعكست هذه القراءات عليّ في دروس التعبير بالمدرسة، فوجد مدرسو العربية في واجباتي البيتية ما دفعهم إلى الاهتمام بي وتوجيهي منذ الصف الثامن والتاسع.. فلما كنت في الثانوية اختارني أستاذ العربية للإشراف على مجلة المدرسة المطبوعة، فكنت أتلقى مشاركات الطلاب وأقرؤها معه وكنت الصلةَ بينه وبين المطبعة التي أصدرنا منها المجلة وحملت اسمي في الصحيفة الأولى مع اسم المدرس..كما كتبت في جريدة اللواء التي كانت تصدر في بداية ستينات القرن العشرين في ركن خصصته لطلاب المدارس الثانوية.. ثم كانت الجامعة مرحلة إعداد لأيام أخرى. إذ تعمق اطلاعي على الأدب والنقد والبلاغة إلى أن استوى لي أسلوب خاص.
* يلاحظ ميلك للرواية مع انها لا تشكلأكثر من 20% من انتاجك الإبداعي؟
هذا صحيح،أزعم أنني حينما أكتب في الرواية أو القصة أجد نفسي تماما، اعبر عنها وأسرح معها في تناول أحداث أثرت في وأثارت مشاعري.. أنساق وأنا اكتب الرواية مع أبطالها وشخصياتها وانفعالاتهم.. أعيش معهم.. أـتخيل أنني أجلس بينهم.. أراهم.. وربما أشاركهم أو أكاد، فيما يفكرون.. وربما لا تصدق إذ أقول لك إن الشخصيات هي التي تملي على ما اكتب ولست أنا، صحيح أنني البادئ ولكن دافعا خفيا يدفع الحدث أمامي ليسير باتجاه معين، اليوم إذا عدت وقرأت إحدى رواياتي أجد نفسي كأنني أقرأ لغيري لا لي، وأتساءل أأنا الذي كتب هذا النص فعلا او ذاك؟!، وبالخلاصة فأنا أجد لذة وأنا أكتب الرواية لا أستطيع أن أعبر عنها بوضوح غير الكتابات الأخرى التي يمكن أن أقول إنها كتابات باردة.
*مايحدث الان في غزة ينقلني مباشرة إلى روايتك “العيون السود” التي تكلمت فيها عن نضال وشجاعة اهالي غزة. فقد كانت رواية المكان بامتياز، ويسجل لك هذه الدقة ومعرفة تضاريس غزة وحاراتها في هذه الرواية؟
كان لابد من القراءة المكثفة عن جغرافيا غزة وحاراتها وازقتها وشوارعها قبل كتابة الرواية وقد ساعدتني كثيرا المنشورات التي أصدرتها المقاومة الفلسطينية ابان انتفاضة الأقصى الثانية.. وذكر هذه المواقع والحارات هي التي سكبت على الرواية حيوية ساعدت ان تكون قريبة من القراء.. وهذا ضروري في روايات المتعلقة بأحداث الأماكن.
* لماذا تركت بطلة الرواية تُقتل في النهاية ولا يكتب لها نهاية سعيدة بالزواج؟
في رواية العيون السود عشنا مع البطلة التي تمثل فتيات فلسطين المقاومة.. التي قتلت غيلة ككثير من المناضلات الفلسطينيات اللواتي قدمن دماءهن.. وارى انني فعلت ذلك كي ابين فداحة المأساة التي يعيشها الفلسطينيون.. العدو يقتل أحلى ماعند الفلسطينيين واعز ما لديهم.. ظننت ان لو كانت النهاية زواج البطلة فستكون نهاية باردة لا تعبر عن فداحة الظلم وجرائم الاحتلال.. والفت الى انني لم أفكر بالأمر عند كتابة الرواية فقد كنت انساق مع الحدث وتركت البطلة تموت لأنها النهاية الطبيعية هنا.
*استوقفني عنوان روايتك الأولى (حبيبتي من ورق).. لماذا كانت من ورق؟
هذه أولى رواياتي بدأت كتابتها منذ عام 1973 مع نهايات حرب رمضان/ تشرين وعدّلت فيها كثيراً إلى أن صدرت عام 2008م بعد احتباس طويل عندي، وبها دخلت عالم الرواية، ومن قبل كنت أكتب القصة. وهي حكاية حقيقية، وجرت احداثها وتفاصيلها تحت سمعي وبصري،وتحكي قصة فتى مراهق شقي أتعب الحارة بطيشه.. وتزعم ثلة رفاقه. ثم وقع في مشكلة حب مع بنت الجيران تعب كثيرا فيها ولقي الأمّرين، في بيئة صعبة لا تساعد على الحب.. ثم انتهت حكاياتهما ومعاناتهما يعد أن تطوع في الجيش وكان في الطيران الحربي الذي نقله من حب بنت الجيران الى حب الوطن، عرض نفسه للمخاطر في سبيله وكبر على الحب ورأى أن حبيبته تلقاء وطنه تشبه الدمية من القماش والورق..فالورق هنا يرمز إلى نضوج الفتى الذي رأى الحب الأول لم يعد يناسبه حين ارتقى إلى الواجب.. الورق يتمزق.. وغدت حبيبته دمية كان يشغف بها أيام المراهقة فلما كبر كبرت معه تطوراته.
*في روايتك (سمية)تطرقت إلى موضوع مهم جداً،وهو العلاقة بين الشيخة والمريدة، ولكنك ركزت تحديداً على الجوانب الإيجابية؟
لا أخفيك أن رواية (سمية)من أحب رواياتي إلي، فقد فرغت فيها شحنة من نفسي كانت تشغلني تتصل بالعلاقة العاطفية بين المريد والشيخ، أنا اعرف جيداً تلك العاطفة وعشت تفاصيلها الدقيقة حيث أني قرأت على المشايخ، وأردت هنا أن أتحدث عن العاطفة النسائية بين المريدة والشيخة بشكل خاص، اذ كان يتناهى إليّ أخبار مختلفة عن تلك العلاقة سلبية وإيجابية، تلك العاطفة التي قد تكون جارفة أحياناًفالفتيات معروفات بعواطفهن. وبعضهن تعاملت مع الشيخة تعامل قداسة هي فوق العلم.. في الوقت الذي يجب ان تكون قائمة على العلم فقط، هذه هي الصلة الحقيقية بين الشيخ ومريده أما أن يسلبك الشيخ إرادتك وتفكيرك فتدور في فلكه وهذا مرفوض. وبعكس ما تتهمني به، فقد تقصدت في رواية سمية ان اكشف، مع الجانب الإيجابي، جانباً سلبياًفصورت موقف انصراف التلميذة عن زوجها وأسرتها وإهمالها إياها بسبب الشيخةوانعكاس هذا على الأسرة،وابرزت الموقف السلبي للشيخة في هذه الناحية، والامر الآخرفي نهاية الرواية تركت الشخصية الثانية فيها لاتنجرف الى الانخراط مع التلميذات في حلقة الشيخة بل تركتها في موضع الخيار والتفكير.. وهذه نقطة مهمة جداً.
* من يقرأ رواياتك يشعر أحيانا بانك “خائف” نوعاً ما من الاسترسال في الغوص في مشاعر ابطال الرواية؟
هذا صحيح، وربما يكون هذا عيبا في رواياتي، أقدم أولاً بجرأة، ثم أحجم بعض الاحجام وخاصة في المواقف الحساسة في العلاقة بين الذكر والأنثى، وفي صلات الحب الدقيقة، ولا اريد الاسترسال في الاثارة، إذ أخاف ان يؤدي ذلك إلى إثارة الشباب، واكتفي من السباحة بالبقاء على الساحل لئلا أدخل في لجة البحر.. وأذكر أن رواية سمية وقصة ” السمكة الذهبية” اثارتا ضجة كبيرة بين القراء حتى ان البعض رماني بالإسفاف في تصوير الجمال.
* أيضاً، يلاحظ أن الحب يقتل دائماً في رواياتك، سواء في قتل البطلة لمصلحة الوطن أم لظروف مختلفة يبدو أنك تختلقها.. المهم أن علاقة الحب في رواياتك لا تنتهي النهاية السعيدة أبداً..؟
الحب عذاب.. ومنذا الذي سعد بالحب. السعداء بالحب تنتهي قصصهم وقد قيل سابقاً الزواج يفسد الحب، فإذا تزوج الحبيبان انتهى حبهما ولم يكن عندهما ما يشغل الآخرين. انظر إلى قصص الحب القديمة، هل تجد فيها إلا الشقاء، كل المحبين لم يظفر بما يريد من وراء حبه، ألم تقرأ كتاب مصارع العشاق؟ ألم تقرأ ما في كتاب طوق الحمامة في الألفة والألاف وما فيه من تعب المحبين.. وقد ألفه صاحبه ابن حزم، تتجلى فيه قصة حبه التي آلمته فرصد حكايات المحبين وعذاباتهم فيه. هذا وإنّ الرواية تقوم دوماً على مشكلة، على حوادث غريبة حتى تستوي فيها الأحداث غير العادية.. ولدي الآن ثلاث روايات تحت الطبع كتبت الأولى سنة 1972م والثانية 1992م والثالثة 2020م والنهايات في اثنتين منهما ليست سعيدة إلا في واحدة منها فحسب، فهي نهاية مدهشة جداً على سعادتها.
*تأخذ اعمالك منحاً وعظياً وقد يصل حد المباشرة أحياناً،كما في روايتيك “غرباء في سلة واحدة” أو سمية؟
الوعظ المباشر في الرواية عيب مشين، وخصوصا ان كان مباشراً، واذا كنت قد لحظت ذلك بوصفك قارئا او ناقدا فهذا سيفيدني جدا في الأعمال القادمة … ومن يدري فربما لا استطيع التخلص من هذه المنقصة فالكاتب يقدم نفسه لقرائه ويفضح عيوبه بنفسه أحيانا كثيرة. أتمنى ان اتغلب على تلك المنقصة.
* بالتالي كيف يمكن للكاتب ان يكون حياديا مع ابطال رواياته؟
الحيادية امر نسبي جدا فيما أرى.. الحيادية قضية لا يتحلى بها الا القليل من الكتاب.. وخصوصا في كتابة التاريخ. كيف أكون حياديا وانا أقدم شخصيات ذات مشكلة، والرواية عادة لا تقوم الا على مشكلة. هناك روايات تصور شخصية ما، شخصية البخيل كما عند موليير، وشخصية الشكاك كما في عطيل عند شكسبير، وشخصية الشيطان كما في فاوست عند غوته. فكيف يكون الكاتب الذي يصور هؤلاء حياديا إنه اختارهم ليقدم من ورائهم وجهة نظر خاصة.
* الواقعية هي السمة البارزة في جميع تدور أعمالك الروائية. وقد تصل حد التقريرية المباشرة أحيانا.. اليس للخيال دورا في السرد أيضا؟
هذا صحيح لأننيأتأثر كثيرا مما حولي من الأمكنة والحوادث اليومية، أنا انظر الى الواقع على أنه مجموع روايات تحتاج الى الكتابة، انفعل لحادثة حقيقية تجري.. أو مجموعة حوادث مختلفة فألملم منها مايصلح للكتابة.. فالكاتب لا يستطيع ان ينفصل عن المكان والزمان وما يجري فيهما؟ أما ماتذكره عن التقريرية في الرواية أحيانا فقد يكون عيبا بمقياس النقد الادبي، ربما لم أستطع الانفصال عن تلك الخلة.. هذا والخيال ضروري جدا والرواية بلا خيال لاتصلح.. انت تشير الى رواية غرباء في سلة واحدة وما فيها من ذكر لحوادث مرت بها دمشق وغيرها من المدن السورية.. ولكن هذه الإشارات لاتمثل الا جزءا يسيرا من الرواية لكن كل ماحدث في الرواية هو محض خيال فلا انا عرفت البطل فيها بل اخترعته واخترعت قريته ولا عرفت الشخصيات الأخرى ولا جالستها.. تخيلت ذلك كله حتى توهم القارئ أنني أتحدث عن أشخاص حقيقيين.
*تلجأ في رواياتك غالباً إلى أسلوب الراوي في القص.. فلماذا؟ هل الموضوع هو الذي يفرض عليك هذه التقنية، أم إنك تفضلها على غيرها؟
في الحقيقة أنا لا أدري لماذا؟ هل لأني أفضل هذه الطريقة لتكون الرواية أكثر حياة؟ أم لاعتبار آخر؟ الواقع أن هناك طرقاً شتى في البناء القصصي..الآن أعود فأقرأ ما كتبته من قبلُ فأرى أن أغيّر وأبدّل مع تقدم الزمن ولكن ما صدر لا يبدل.. وبعض ما أقرؤه أعجب فيه، وكأنني أقرأ لكاتب آخر .. وأتساءل هل أنا الذي كتب هذا في تفاصيله؟ ..مَن حولي غالباً ينتقدونني ويسألون أسئلة لا أجد عنها جواباً. ..القارئ هو الحكم على العمل دوماً أكثر من الكاتب.
*هل تكون جزئيات الرواية لديك جاهزة عندما تكتب.. أهي واضحة بتفاصيلها في ذهنك.. أم إنها تتشكل في أثناء الكتابة؟
لا، أبداً.. يهزني عادة موضوع الرواية.. أما التفاصيل فتنشأ فيما بعد، وما إن أبدأ حتى تتسلسل الحوادث والمفاجآت والمشكلات التي يأخذ بعضها بخناق بعض.. لا يمكن أن تولد الرواية كاملة أبداً، وفي أحسن الأحوال تكون الحوادث الأساسية واضحة لي.. في بعض الأحيان يتضح لي الموضوع فإذا أخذت أبني الرواية تعسرت التفاصيل.. وربما تركت القلم لأعود للكتابة فيما بعد، أو ربما انصرفت عنها ومزقت الأوراق.. في المواضيع الناجحة سواء في الرواية أم المقالة أم المسرحية تشتعل الحوادث في قلم الكاتب وتتطور فإذا بالعمل يخرج ناجحاً.. أما إذا أراد أن ينفخ المؤلف في رماد فلن يقدم عملاً ذا قيمة.
*انتقد البعض اسلوبك بالكتابة وتأثرك بأسلوب طه حسين.. ماقولك؟
قد يكون هذا صحيحا في مجال الكتابة الأدبية وخصوصا الرواية، حيث تفتحت قراءاتي فيها على طه حسين واعجبت به كثيراً، وربما دخل الي منه شيء ما دون ان اتكلفه، ولكن أين كتابتي من كتابة طه حسين على عبقرية أسلوبه، يريد هذا أن يقول إن أسلوب ذلك الأديب قد أنتهى واهترأ، وانت لم تتجدد كما ينبغي.. فإنني أقول لا يمكن لكاتب ان يختار أسلوبه، أسلوبه يشبه شكله فهل يستطيع أحد ان يغير من خلقته التي فطره الله عليها.
*صدر لك مؤخراً رواية (الطوشة.. قصة ماري وعائشة)..هل يمكن إعطاء فكرة عنها…؟
تصور الرواية الحوادث التي جرت بدمشق في فتنة 1860 التي نُكب فيها المسيحيون وأُحرقت دور كثيرة لهم، وقتل فيها أبرياء وعوقب جماعة عدة.. ودفع الدمشقيون الثمن الباهظ.. وقُضي على اقتصاد المدينة المزدهر وعلى صناعات كثيرة فيها. ومع هذه المجريات المؤلمة تصور الرواية صلة المسلمين بالمسيحيين، وما أصاب الفريقين من عوارض الفتنة على خلفية عاطفة تقوم بين فتى مسلم وفتاة مسيحية..
*بعيدا عن الروايات هل يمكن ان تحدثنا كيف بدأت علاقتك بالتراجم؟ ولماذا هذا الاهتمام الكبير بها؟
في أواخر سبعينات القرن الفائت خططت للعمل بالتراجم مع صديقي الغالي الدكتور محمد مطيع الحافظ يوم كنا نعمل في مجمع اللغة العربية معاً كان هو على صلة واسعة بعلماء دمشق بحكم صلته بعمه الشيخ عبد الوهاب الحافظ المشهور بدبس وزيت، وكان مطيع يسجل كثيراً مما يتعلق بسيرهم الذاتية الأحياء منهم والأموات المشاهير منهم والأقل شهرة. قررنا أن نترجم لمن توفي منهم بدءاً بمطلع القرن الرابع عشر الهجري (1301-1400).. ووضعنا خطة للعمل لتسجيل المعلومات الأساسية التي تقدم فكرة عن كل علم نترجم له.. ولقد اقتنعنا بضرورة هذا العمل لأسباب منها أن الباحث حين يحقق كتاباً لأحد العلماء فإنه يترجم له في صدر كتاب، وربما فاته أشياء كثيرة عنه حين لا يجد ما يسعفه في ذلك. ومنها أن هؤلاء هم وجه دمشق كان لهم فيها حياة مملوءة وأعمال وخدمة يجب ألا تنسى. ومنها أن الكتاب في تراجم علماء مدينة ما هو من تاريخها، فكتاب تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر هو كتاب تراجم لمن سكنها وبعد موته تابع مؤرخون على طريقته.. ولقد أثبتنا تراجم لو تركناها لضاعت تماماً..ولقد صار كتاب تاريخ علماء دمشق للقرن الرابع عشر كتاباً أساسياً في بابته من كتب المصادر الأساسية. واعتمد عليه كثيرون من الباحثين خصوصاً وأننا أحيينا فيه كثيراً من تراجم رجال لم نجد من كتب عنهم وإنما أخذنا معلومات واسعة شفاهاً، لو لم نسجلها لضاعت.
*وماذا عن كتابك ” إتمام الأعلام” والى أي مدى استطعت محاكاة خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام؟
كما اشرت،أول اشتغالي بالكتابة كان في سير وأول الكتب التي حققتها كان كتاب علماء الصالحية للقرن السادس الهجري، ثم عملت في سير علماء دمشق للقرون الهجرية الحادي عشر حتى الخامس عشر.. أما العمل في “إتمام الاعلام” فكان شيئا اخر، حيث ان متابعة خير الدين الزركلي في كتابه “الاعلام” فأمر صعب للغاية. كتاب الزركلي أحد أهم عشرة كتب ألفت في القرن العشرين، وقد أنفق عليه صاحبه من عمره نحو 60 سنة، ظهر فيه أدبه العالي وعلمه الواسع، وقد رسخ لمدرسة في التاريخ فريدة وكل من جاء بعده تتلمذ عليه. ونادرا مايستطيع أحد ان يسير على خطاه في دقة العبارة واختصارها وشمول المعلومة. لكن الزركلي توقف عند عام 1975 وما زال كتابه مهماً حتى اليوم. كانت متابعة الزركلي مغامرة اشتغلت عليها انا وزميلي رياض المالح رحمه الله فأنجزنا الطبعة الأولى واقبل القراء على الكتاب، وها انا ذا انهيت الاعداد للطبعة الرابعة.. ولا أقول انني وصلت الى مستوى الزركلي ذلك العملاق ولكنني ترسمت طريقه قدر المستطاع.
* سؤال يطرح نفسه ما الذي تقدمه كتب او سير الاعلام في وجود الانترنت اليوم والتي تضخ معلومات واسعة عن الاعلام؟
ان في الانترنت معلومات شتى كثيرة جداً وقد تأتي تلك المعلومات مشتتة، بينما اختزل أنا المعلومة وقدمت الضروري منها كما قدمت أيضا حكماً على الشخصية التي أتناولها تفيد المستعجل وتعطي صورة متكاملة على قصرها. ويمكن القول ان الاقبال على كتابي ونفاذه من السواق دليل نجاحه على ما اظن والحمد لله.
*قدمت مساهمة كبيرة في كتبك عن تعليم العربية للناطقين بغيرها.. ما الجديد الذي أضفته في هذه السلاسل؟
الكتب في تعليم العربية للأجانب عديدة، منها ما هو ألكتروني.. وخاصة في الأوقات الحالية. ولقد شجعني على وضع كتب للأعاجم أنّ المدرسة المعنية بهذا الاختصاص في دمشق لا تعتمد كتاباً لطلابها وإنما يضع كل مدرس نصوصاً وأملية للقواعد وتدريبات، وكان ذلك شيئاً مفيداً، وقد خرجت المدرسة طلاباً على مستوى جيد أو جيد جداً. ولكن لا بد من كتاب.. ولقد رأيت كتباً عديدة سبقت في الموضوع في السعودية عدد من السلاسل غير جذابة وللمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم سلسلة جيدة لكنها سيئة الطباعة والإخراج… ووجدت في بلدي حاجة للمشاركة في هذا الباب فأصدرت كتاباً عادياً، ثم سلسلة بعنوان “العربية لغير أبنائها” ثم طورتها إلى سلسلة بأربع أجزاء ((نحن والعربية)) أخرجتها دار الفكر إخراجاً لائقاً جذاباً وهي مطلوبة في عدد من البلدان… وقد وضعت سلسلة أخرى باسم ((بيان)) في ستة أجزاء كلفني بها معهد (عربي) في الرياض وألفتها اعتماداً على دليل تربوي لغوي اعتمدوه.. وقد قدروا عملي حق قدره. هذا مع وجود عدد من المؤلفين عندهم، وقد جاء مدير المعهد إليّ خصيصاً وتعاقد معي، بناء – فيما يبدو – على تزكية ممن عرف عملي في كتبي.
*يبدو ان مسألة تاريخ مدينة دمشق اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً من خلال الرواية كانت خيارك.. وليس فقط من خلال الكتب البحثية التي قدمتها…؟
* بالطبع أنا متأثر بالحياة في مدينة دمشق التي فتحت عيني عليها ووعيت الحوادث المختلفة منذ وعيت على الدنيا.. فدخلتْ في كياني وأتت علي ظروف وأيام مختلفات عشتها في كياني راحة وتعباً.. عشت حاراتها وشوارعها وناسها ودكاكينها رجالها ونساءها وأطفالها … حدائقها وبيوتها القديمة والجديدة استمعت إلى الناس تعشقت الأمثال الشامية والحكايات الشعبية.. وعندما كتبت عن أعيان المدينة وعن المدارس كنت أرى قصصاً وحكايات تستحق أن تسجّل ولذلك كانت الرواية عن دمشق جزءاً من عقلي ونفسي وقلبي..
بدأتُ من دمشق المراهقين في (حبيبتي من ورق)، فصورت الحي الذي جرت فيه الرواية كأنك تعيش مع ناسه وتتحدث إليهم.. وكتبت عن دمشق العجائز في (مقهى بلا رواد )فصورت مقهى الروضة في شارع العابد وما يجري فيه وعن البيت الدمشقي بتقاليده، وكتبت عن دمشق النساء في رواية (سمية )فصورت مجتمعهن العلمي والجامعة والبنات وتفكيرهن وكتبت عن دمشق المعذبة في الأزمة والقلق وأيام هجرة الشباب في (غرباء في سلة واحدة). وكتبت عن دمشق الفتنة التي أتت عليها عام 1860م وما ذاق أهلها فيها من ويلات في رواية (الطوشة).. وأنا الآن بصدد كتابة مذكرات أشبه بالرواية تحكي حياتي الخاصة وحياة جيلي. لا أستطيع إذا خرجت من دمشق إلا أن أعود إليها برواية وبحث.. كل ذلك للحب
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
أما بحوثي عن دمشق فإنني أردت أن أخدم بلدي من جهة وقد توافرت لي معلومات مسجلة وميدانية تابعتها من جهة أخرى خدمتني وأمدتني بالجديد الذي نفعني.. وأرجو أن ينفع وأما اهتمامي بتاريخ دمشق فقد أشرت إليه في الجواب عن السؤال حول التراجم.
* ونحن في رحاب السنة الهجرية الجديدة.. هل يمكن ان تحدثنا عن موسوعة السيرة التي أصدرتها بعنوان رسول الإنسانية.. وبماذا تختلف عن غيرها من كتب السيرة؟
لا أخفيك أنني كنت لا أطمع في الكتابة بالسيرة بعدما كتب فيها كبار الأدباء و أصدروا فيها أعمالا رائعة. وللمصادفة أصدرت كتاباً بعنوان في بيت الرسول (ص) صورت فيها حياته عليه السلام في البيوت التي عاش فيها منذ كان صغيرا حتى توفي. فأعجب العمل الأستاذ محمد عدنان سالم المدير العام لدار الفكر وشجع العمل وأصدره وشيكا ثم اقترح أن أتابع الكتابة في السيرة بحسب الموضوعات وليس بحسب تسلسل الحوادث؛ وهذا بالفعل مايميز الموسوعة عن غيرها من كتب السيرة… وأزعم أن هذه المعالجة للسيرة جاء جديدا، كما ان الأسلوب الذي تناولته الموسوعة، أسلوب أدبي سهل. وقد ترجمت الموسوعة الى اللغة الاندونيسية.