مقال

إبادة الكتب بين الواقع والخيال

بقلم: د. عبد الرحمن صبري
عادة ما يكون الخيال بسبب من الواقع، وهذا السبب في حده الأدنى ضرورة كي لا يستحيل الخيال رمزا مغلقا أو غموضا ملبسا؛ وعلى هذا تكون أفعال الناس حائرة بين واقعهم وخيالهم، وحين عرف الإنسان القديم الكتاب تخيل أن في استطاعته أن يكون في شيء من الخلود، ولم يكن يدري هذا الإنسان أن الكتاب سيكون –في بعض أمره- كابوسا يأخذه من كل أطرافه أخذا جعله يبيد الكتابَ حرقا أو إغراقا أو تمزيقا أو ما هو بنحو من ذلك في واقعه وخياله أيضا.
وقد تقع هذه الإبادة عمدا، وتقع إهمالا، وتقع قهرا للإنسان العاجز أمام الطبيعة؛ فمن الجانب الأخير نذكر أن الفيضانات التي اجتاحت فلورانسا عام 1966م قد أتت على قرابة مليوني كتاب، وفي لينغراد أتت نيران مدمرة على ما يقارب أربعة ملايين من الكتب، ولكنّ هذه الحوادث مما يعجز فيه الإنسان على رغم الحزن الذي يعترينا حال تأملها، ويكون الحزن مصحوبا بالحسرة حين يكون ذلك عمدا بيد الإنسان، والتاريخ يذكر أفعال النازيين والصرب والماويين، ولم يسلم منها العرب حين فعل الغزو بالكويت فعله في إبادة الكتب…
لستُ أحصر بين يديك أمثلة لذلك السلوك البشري العجيب، وإنما أقف بك على مثال من الواقع، ومثال من الخيال، الخيالِ الروائي، فأما مثال الواقع فهو أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، أبو حيان التوحيدي، وكانت حياته بؤسا متصلا، غير منقطع، تعطيه الحياة قليلا، وتمنعه كثيرا، نشأ يتيما فقيرا، وقد تضمنت رسائله ألوانا من الحرمان وشظف العيش، واحترف الوراقة حينا من الدهر، ولم يفلح في التقرب من الملوك؛ فنقم على الواقع، ولكنه كان واسع الاطلاع، غزير الإنتاج، موسوعيّ الثقافة، ذا رأي في الواقع الاجتماعي في القرن الرابع الهجري، وهو شخصية جدلية بامتياز؛ فهو مُعظّم للمحدثين، ونُقل عنه الطعن فيهم، هو معدود في طبقات المعتزلة، وله نقد شديد لهم، موصوف بالفلسفة، وكان شديد اللسان في الفلاسفة، وعبارته متسعة؛ مما أتاح المجال للقول فيه من قبل ابن عقيل وتلميذه ابن الجوزي وغيرهم.
وغالب المترجمين يدفع عنه التهم التي رُمِي بها؛ منهم ابنُ النجار، صاحب ذيل تاريخ بغداد؛ يقول: “له مصنفات حسان، وكان فقيرا صابرا متدينا، وكان صحيح العقيدة”، وكثُر ذكره في طبقات الشافعية، وقال تقي الدين السبكي: “كان إماما في النحو واللغة والتصوف، فقيها مؤرخا، صنّف البصائر والإشارات، وغيرها”.
هو على هذا صاحب فضل وأدب وحكمة وعلم، أصابته الأيام، وأتت عليه بما يسوء؛ فأحرق كتبه حين شارف التسعين؛ واتجه إلى التصوف؛ فكان مثالا واقعا على إبادة العالم لكتبه على شدة تعلقه بها.
ونُسب مثل ذلك إلى أبي عمرو بن العلاء، النحوي القارئ الشهير؛ فقيل: إنه دفن كتبا له في باطن الأرض؛ فلم يُعرف لها أثر، وهو على علمه ذو ورع وزهد، ونُقل عن غيرهما طريقة أخرى في إبادة الكتب، حيث تلقى في البحر، وهو فعل منسوب إلى داوود الطائي، المفسر الزاهد الفقيه…
والتاريخ ممتلئ من ذلك، وقريب منه؛ ويكاد اليأس الذي يصيب العلماء من إصلاح حالهم أو حال واقعهم، هو الجهة المشتركة التي تدفعهم دفعا نحو هذا السلوك.
وأمّا المثال الذي هو من الخيال؛ فهو رائعة روائية للإسباني النابغة كارلوس زافون، في رباعيته الشهيرة (مقبرة الكتب المنسية)، وزافون متوفى في 19 يونيو عام 2020م، بعد صراع مع سرطان القاولون، وقد ولد في 25 سبتمبر 1964م، ورباعيته مكونة من (ظل الريح، لعبة الملاك، سجين السماء، متاهة الأرواح)، وبدأ حياته الروائية بـــ (أمير الضباب) في أدب الأطفال…
والذي أود الإشارة إليه أن الجزء الأول (ظل الريح) تدور أحداثه حول طفل (دانيال سمبيري) فقد أمه؛ ليصبح أبوه عالمه كله، يعمل الطفل مع والده في بيع الكتب داخل مكتبة عتيقة، وفي سبيل إسعاد الأب ابنه يأخذه إلى مقبرة الكتب المنسية، وقانون زيارتها ماثل في أن يختار الزائر كتابا واحدا يتعهده بالحماية حتى يتم قراءته؛ فلما رأي سمبيرى الابن هذه المتاهة من الكتب كاد أن يذهب عقله، وانتهى به المطاف في أن أخذ رواية، على غلافها (ظل الريح، لخوليان كراكس)، وتعلق قلب الفتى بالرواية تعلقا شديدا، وقد بلغ به هذا التعلق حدا جعله يبحث عن المؤلف بحثا شديدا، وفي غمار بحثه يحاول مسخ من البشر محروق أن يسرق منه الرواية، والولد يزداد عنادا وحماية حتى يرجع بالرواية إلى المقبرة، ليأخذنا المؤلف في تعقيد فني مذهل من الأحداث؛ ليكتشف دانيال سمبيري أن هذا الرجل الذي يلاحقه من أجل روايته، هو نفسه المؤلف الذي يسعى إلى الوصول إليه، فخوليان صاحب الرسالة يحاول إحراق نسخ الرواية جميعها وإبادتها.
والذي يلفت النظر أن هذا المثال الخيالي الروائي في إبادة الكتب دارت أحداثه في فترة الحرب الأهلية الإسبانية في العقود الأولى من القرن العشرين، وقد شهدت الفترة نفسها الحربين العالميتين، وكان في توابعها من تدمير الكتب وإحراقها ما كان، مما لا نستبعد معه أثر قراءة الواقع في صنع الخيال، ألم أقل لك: إنّ الخيال يكون بسبب من الواقع؟!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى