الشاعر جبّار الكوّاز في حوار مع الشاعرة والصحفية نادية الدليمي
حاورته: نادية الدليمي
• قصيدة النثر هي مستقبل الشعر العربي
• أية محاولة لإخضاع الشعر كفعل جمالي بحت إلى سلطة التنظير تكبيل لجوهره وسيرورته الجمالية
• الجيل السبعيني كان جيلاً مميزاً وشجاعاً أكد بإقدامه وعزمه على بصماته أن تكون حيّــة ومشرقة في تاريخية الشعر العراقي
جبّار الكوّاز شاعر من بابل نشأت موهبته المبكرة في كنف أسرة ذات أدب ودين فكان القرآن الكريم وِرده الأول والأهم ثم دفعه شغفه بالقراءة إلى التهام كل ما يقع بين يديه، أدرك مبكراً أن موهبته وحدها لن تصنع منه الشاعر الذي يريد فانكب على نهل المعرفة من شتى أطياف الثقافة العربية والإسلامية والعالمية ، فأبهرته الأسطورة وكانت أهم عناصر تكوينه الثقافي والمعرفي ،درس اللغة العربية وآدابها في جامعة بغداد وعمل مدرساً ومشرفاً اختصاصياً لها في مدارس العراق والجزائر وليبيا ، انخرط في العمل الإداري مؤسساً و رئيساً لاتحاد الأدباء في بابل ولعدة سنوات وكان ومايزال ركناً مهمّاً من أركان المؤسسة الثقافية يدفعه إيمانه بأن العمل الإداري يكشف للمبدع رؤى جديدة وأفكار وعلاقات، صدرت مجموعته الأولى (سيدة الفجر) عام 1978، مثل العراق شاعراً في الكثير من المحافل العربية والعالمية كما ترجمت نصوصه إلى العديد من اللغات . وللاطلاع على جوانب من تجربته الشعرية ومنجزه الأدبي الثر كان لنا معه هذا الحوار :
• الشاعر جبّار الكوّاز بعد هذا المشوار الطويل والحافل مع الشعر، بماذا تصف رحلتك، وماهي أهم المحطات فيه؟
ــ هي مرحلة صراع وتكوين وإصرار على البقاء في خضم الإبداع مهما كانت التضحيات، وهي مرحلة قاسية توزعت على مراحل وفقاً لطبيعة المشهد الثقافي والإبداعي العراقي الذي يكون صدى لطبيعة المتغيرات السياسية أولاً وآخرً ولهذا فأنا كنت في وسط معمعة تبتكر أحكامها وفقاً لرؤى غير ناضجة ومنحازة دائماً إلى ميولها الفكرية والجمالية وخلاصة الكلام فهي محطات متعبات واجهت فيها أحكاماً سيئة بعيداً عن مفاهيم الإبداع وجمالياته .
• ما الأمور التي يكاد يكون لوجودها صفة الهوية في نصوصك؟
ــ منذ بواكير كتابتي للشعر وفقاً لخطوات هيأتها لي طبيعة تكوين أسرتي بوصفها أسرة أدب ودين فقد كنت حريصاً دائماً على عدم الاتكال على موهبتي المبكرة في كتابة الشعر فهي ليست العامل الوحيد في صياغة شخصية الشاعر واعتماداً على نصائح أساتذتي منذ الصبا فإن الموهبة لابد أن تترافق مع المعرفة بكل أطيافها ولهذا فإنني كنت منذ بواكير تكويني الثقافي والإبداعي منكباً على انتهال أطياف الثقافة العربية والإسلامية والعالمية وقد أبهرتني الأسطورة بوصفها عوالم يتداخل فيها المخيال العام بالمخيال الشخصي فقرأت أساطير العرب والأمم الأخرى بتعمق وتأنٍ وحرص على أن تكوّن أهم عناصر تكويني الثقافي والمعرفي مرافقة لكل ما قرأت منذ طفولتي إلى الآن .
• العزلة هي أولى سمات الشاعر أولعلها إحدى محاولاته للحفاظ على خصوصيته، ألا يحرمك عملك الإداري في المؤسسة الثقافية حق التمتع بمزاياها ؟وما الذي تحاول أن تحققه من خلاله؟
ــ العزلة الإيجابية وليست السلبية العزلة التي تتيح للمبدع أن يتابع المشهد الثقافي والإبداعي وكيفية تشكيل سيرورته أمس واليوم وغداً أنا الآن متفرغ للكتابة والقراءة والتأمل وأحاول من خلال ذلك أن تكون نصوصي مرتبطة بحركية الحياة وصياغتها وفقاً لرؤى متجددة بعيدة عن الجمود والتقولب أنظر إلى الحياة بوصفها عاملاً دافعاً وداعماً للمبدع ليكون إبداعه أكثر اكتشافاً بأعماقها ولججها وأحاول من خلال ذلك أن أكون ابن العصر الذي أعيشه المتطلع إلى غدٍ أفضل وأفق أوسع وشمس أكثر سطوعاً، أما العمل الإداري في المؤسسة الثقافية فأنا أراه ورغم صعوبته وحدة علاقاته وإشكالياتها مفيداً للمبدع الحقيقي الذي يكتشف رؤى جديدة وأفكار جديدة وعلاقات جديدة من خلاله .
• كيف تتشكل القصيدة لديك ، هل لك أن تصف لنا حالة الكتابة وما الذي تمثله لك؟
ــ حالة الكتابة قبيل انبثاق النصّ الشعري حالة التبايّن تتشكل في تكوينها عناصر عديدة لا يمكن حصرها أو الإلمام بها لأنها تتشكل وفقاً للتجربة الشخصية ورؤيتها للواقع المكون للتجربة في كثير من الأحيان ينبثق النصّ عندي من لقطة سريعة أراها وأنا أسير أو أتمتع بجلسة مريحة في مقهى أو ربما من كلمة تقال عابرة لكنها تترسخ في أعماقي ومن حلم أحياناً أو وجه مشرق أو دمعة حزن أو لحظات وداع هذه اللحظات المكوّنة لنواة النص تحتاج إلى خبرة في التعامل معها وأولها الثراء اللغوي وكيفية صياغة جمل تلك اللحظات الابتدائية وانصهارها في مخيال المبدع ليشكل رؤى داعمة لها تكون البنية الكبرى للنصّ وأحياناً تمرّ أيام وشهور وأنا أفكر في مشروع نصّ وأخفق بذلك لأسابيع ولكن ينبثق أحياناً في لحظات مبهمة من سيرة يوم أعيشه دون أن أفكر في ذلك النص وهذا ما حدث معي في إنجاز كتابي (ورقة الحلة) فقد كتبت النصّ الطويل الذي شكل الكتاب في ليلة واحدة بعد شهور طويلة من إخفاقات وخيبات عشتها محاولاً أن أبدأ خطوته الأولى .
• ما رأيك بالنقد ، وهل واكب النقاد تجربتك الشعرية بما تستحقه من البحث والدراسة؟
ــ النقد في العراق يعيش إشكالية كبرى بين نقاد كبار مؤسسين نقداً بشكل أكاديمي أو شخصي وهم يشكلون عماد المشهد النقدي ولكن ظروف ما بعد الاحتلال أتاحت لكثير من الناس أن يمارسوا النقد بعد غياب الضوابط الفنية والجمالية للنشر في الصحف والدوريات وهذا ما خلق فجوة كبرى في طبيعة النقد والاستسهال في كتابته ودخل في هذا المشهد من لا علاقة له بالقراءة والكتابة والنقد وصارت الأحكام التي تزجى للبعض من المبتدئين والفاشلين والمغامرين مصدر نصبٍ وإضحاك وسبب ذلك أن النقاد الأساتذة ابتعدوا عن المشهد الثقافي خوفاً من أمور يتوقعون حدوثها قد تسيء إلى منجزهم أو تجربتهم وأتاحوا الفرص للفاشلين في التسيّد ولهذا أنا أدعو لأن تكون رابطة نقاد الأدب المنبثقة من الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق أكثر عزماً ومضاءً في التعامل مع هؤلاء الطارئين وأدعو أيضاً لأن تأخذ الجامعات العراقية دورها الرئيس في المشهد النقدي فبغير الجامعة لا تتطور العملية النقدية، لابدّ من سياسة إبداعية تنقذ نقدنا العراقي من طائلة الطارئين والباحثين عن الشهرة من خلال جسور الثناء والمديح الظالم لنصوص لا تشكل أية آصرة فنية أو لغوية أو أسلوبية .
• الشعر كفعل جمالي بحت هل من الإنصاف إخضاعه إلى سلطة التنظير ؟
ــ أية محاولة لإخضاع الشعر كفعل جمالي بحت إلى سلطة التنظير تكبيل لجوهره وسيرورته الجمالية، لا يمكن لمبدع أن يبدأ نصّه أو لوحته أو قصته أو روايته منطلقاً من حدود تنظيرية بحتة لأنه سيكون في طور الصناعة وخطوات التكوين والإنشاء . الشعر عالم مجهول ورؤى تحوم في هذا العالم الواسع والشاعر جوّاب هذه العوالم قناص ماهر للحظاتها المتحركة وحفار رؤى غامضة لا يتعامل مع الظاهر وإنما يكسب الظاهر جلاله المخفي أو المتستر في هذا العالم الواسع الشاعر ليس حكيماً لينشر مواعظه في نصوصه وليس ثائراً يحمل سلاحاً ليقاتل الظلام إنه عالم رؤيوي خاضع لسلطة الموهبة والمعرفة والكشف وإلقاء الأسئلة لبناء واقع ثان يسهم في بناء الواقع المهدم. الشاعر أولاً وسلطة التنظير ثانياً في استكشاف عوالم الشعر تنظيراتها المستقرئة بالتحليل والمقارنة والتعميم .
• ما موقفك من موجات الحداثة التي تطرأ على الشعر ، والجدل الأزلي حول شرعية قصيدة النثر؟
ــ ألخصّ موقفي بقولي المكرر دائماً في كل محفل أو لقاء أو مقابلة، ومفاده (إن قصيدة النثر هي مستقبل الشعر العربي) وكلّ عصر مضى جاء برؤى مستجدة حاول فيها تشكيل التجربة الشعرية وأفعالها ابتداء من الوقوف على الأطلال مروراً بتجديدات الأسلوبية لنصوص العصر الأموي إلى الثورة الكبرى بالتنوعات الإيقاعية في العصر العباسي إلى قصائد التفعيلة السيابية وصولاً إلى قصيدة النثر التي تعاني كثيراً من الطارئين المستسهلين لكتابتها دون أية معرفة بآلية كتابتها وأدعو إلى قصيدة نثر عربية تستلهم خواصها من تراثنا الأدبي في الحكم والأمثال والخطب والرسائل والأساطير والحكايات الشعبية المتداولة قصيدة النثر مستقبل الشعر العربي وصيرورته في القادم من السنين .
• ما هو دليل نجاح المشهد الثقافي بشكل عام، هل هو وفرة أعداد المتواجدين فيه، أم كثرة الفعاليات الثقافية، أم اتساع الرقعة الجماهيرية للفعل الثقافي؟
ــ أؤكد أن نجاح المشهد الثقافي هو في عملية تنظيمه بشكل يسهم في ترميم ذائقة الناس ويخلق لديهم رؤى جمالية تعطي للإبداع دوره في صياغة طبيعة حركتها وجوهرها فلا عدد المشاركين ولا كثرة الفعاليات ولا اتساع جماهيرية المنتج الثقافي لها دور كبير في نجاح المشهد الثقافي نحن نحتاج إلى عقد تنظيمي عراقي يصنع من مشهدنا أنموذجاً يحتذى من قبل الأمم الأخرى لنترك العشوائية والخطابية والتنظيم غير القائم على أسس علمية، أما المشهد الثقافي لا ينجح بغير تنظيم يعبرّ عن عمق المساهمات التي تقدم فيه بعيداً عن ضجة المساهمات وتعدد القراءات والتسلق للوقوف خلف المنصّة والمنافسات غير الشريفة وسيادة الأديولوجيا أو المناطقية أو العشائرية في إخضاع فقراته وإفقارها بشكل مؤسف جداً .
• ما هي الصعوبات أو التحديات التي تعترض الأديب العراقي؟
ــ صعوبات كثيرة تنقسم إلى نوعين النوع الأول طبيعة التعامل مع المبدع من قبل مؤسسات الدولة والنظر إليه نظرة دونية مع الأسف وهم يتناسون أن العراق كوطن للجميع ما كان أن يكون لولا مبدعوه عبر التاريخ. أما النوع الثاني فيتعلق بطبيعة رعاية المبدع الأديب في فتح باب المساهمة له في النشر في الصحف والمجلات، إعادة المنح التي تخصص لكل نصّ منشور، اعتماد رعايته صحياً، فتح مجالات السفر له، طباعة كتبه وفقاً لرؤية خبير ضليع، إيقاف هذا الهدر الضخم في النشر الخاص وغياب الرقابة عما ينشر من كتب أدبية أو غير أدبية، الأديب يحتاج إلى الكلمة الطيبة والفعل الإيجابي، الدعم الحقيقي والإيجابي والرعاية الصحية الملائمة وفتح باب التفرغ لإنجاز كتابه أو مشروعه الأدبي .. وهناك صعوبات أخرى لا تقل أهمية عما ذكرت تتعلق في الاهتمام بأسر المتوفين منهم ورعايتهم إضافة إلى ضآلة المنحة التشجيعية التي تقدمها الحكومة لهم . أنا شخصياً واجهت صعوبات جمة طيلة حياتي الأدبية ومازلت من قبل أناس لا شغل لهم إلاّ الإساءة إلى الآخرين دون سبب معلوم .
• هل ترى أن المواقع الالكترونية والاجتماعية لها أثر في توجيه حركة الفكر والإبداع؟
ــ للمواقع الالكترونية وصف دقيق ورائع فهو (سيف ذو حدين) من أحسن استثمارها في تنمية انتشاره إعلامياً وحضوره بشكل ممتاز فهو بذلك يكون قد حقق هدفاً مهماً في حياة المبدع، أما من يستثمرها كوسيلة سلبية لاقتناص النصوص ونشر ما يسيء إلى الوشيجة الاجتماعية والذوق العام فهو قد سلك وجهتها السلبية، مع إن هذه المواقع تتيح للأديب فرصة التعرف على أعداد هائلة من القراء إلاّ أن غياب الرقابة واستشراء الفساد وتنوعه أدى إلى ضياع أهميتها الإيجابية في بناء المجتمع وتطوير رؤاه الجمالية والإبداعية والاجتماعية .
• هل خضت مجالاً أدبياً آخر غير الشعر ؟ حدثنا عن ذلك
ــ لم أخض مجالاً آخر غير الشعر ومتعلقاته فلقد كتبت وأكتب أحياناً قراءات تأملية في نصوص تلفت نظري أو كتب شعرية تستوقفني لأسباب كثيرة ونشرت كثيراً من هذا في الصحف العراقية والعربية وهي قراءات ذوقية فلست ناقداً لأصفها بالنقد ولكنها كلمة صادقة من قارئ دقيق وواعٍ لنصوصهم.. وشكراً للبعض الذي كلفني بكتابة مقدمات لكتبهم الشعرية أشكرهم على ثقتهم بي كثيراً .
• بمن تأثر جبّار الكوّاز في البدايات ومن من المجايلين لك تلامسك تجربته وتصافح روحك؟
ــ أنا ومنذ بداية تكويني الشعري تأثرت بكل ما قرأت شعراً أو نثراً وربما شكل القرآن الكريم وشعر العصر الجاهلي وجوهرة الإمام علي (ع) (نهج البلاغة) الأثر الأول والأكبر الذي مازال في أعماق مشاعري تأثيراً أو حضوراً أقرأ للجميع بمحبة واعتزاز وتقدير وأشاركهم دائماً بإيجابية ومحبة لست في باب الإشارة إلى واحد من زملائي المجايلين لي فهم الآن لا يتجاوزون أصابع اليدين بعد أن داهم أكثرهم الموت أو المنافي أو هجروا الشعر إلى اختصاص آخر ولكنني أقول إن الجيل السبعيني كان جيلاً مميزاً وشجاعاً أكد بإقدامه وعزمه على بصماته أن تكون حيّــة ومشرقة في تاريخية الشعر العراقي فسلاماً وخلوداً لمن رحل منهم وتحية ومحبة للباقين منهم على هامش الحياة وقيد الشعر.