قراءة في المجموعة القصصية ” مدارات امرأة ” للكاتب الفلسطيني محمد حسين
بقلم الأديبة: إسراء عبوشي
صدرت حديثاُ في دمشق الطبعة الثانية من المجموعة عن دار دلمون الجديدة للدراسات والنشر بالتعاون مع أكاديمية دار الثقافة في بيروت. ومن الجدير ذكره أن المجموعة فازت بمسابقة القصة القصيرة لدار ديوان العرب للنشر والتوزيع بالقاهرة عام 2022
مدارات امرأة مجموعة قصصية صاغَ الكاتبُ من خلالها تجاربَ إنسانيةٍ بلغَتهِ ورؤياه، عبّرَ عن ذاتِه وسطَ صراعاتٍ وجوديّةٍ فكريّةٍ، تلكَ الذّاتُ الإنسانيّةُ التي تحزنُ وتسخرُ وتثورُ وتتألّمُ، وترى الكونً من حولها بعيونٍ ناقدةٍ متمرّدةٍ على السلبياتِ ومحاربةٍ للانهزام.
استخدمَ الكاتبُ الرّمزية تعبيراً عمّا لا يمكنُ أن يقالَ مباشرةً، والرمزيّةُ أقدرُ على الكشفِ عن الانطباعاتِ المرهفةِ، وفي ذلك دلالةٌ لواقعِ الحقيقةِ المؤلمِ وتداعياتٌ الكلمةِ وما يترتبُ عليها، كحجرٍ يلقى في وسطِ بحيرةٍ ٍيحرّكُ سكونَ الماءِ، فتثورُ الأمواجُ وتتّسعُ، وقعٌ مدويّ غالباً، المباشرةُ تفقدُه الكثيرَ من الدّلالاتِ، وعلى القارئ أن يكونَ بمستوى تلك الكلمةِ، يفسّرُها.. يحلّلُها.. ويقيسُ أبعادَها ليلتقي مع الكاتبِ.
يتحرّرُ الكاتبُ من سلطةِ الّلغةِ لينحتَ لغتَهُ الخاصّةَ، يصيغُها صياغةً لغويةً مترابطةً منسجمةً مع المفرداتِ مشكّلاً لوحةً فنيةُ متكاملةَ الإبداعِ، لا يكتبُ الكاتبُ ما يُنتظرُ منه وما يفهمُه القارئ وما يرضيه، فنحنُ أمامَ كاتبٍ غير نمطيّ، مُبتكرٌ يواجهُ السّائدَ يبني حريتَه ويفتحُ آفاقَ القارئ لإدراكِ أهميةِ تلك الحريةِ ليتماهى ضمنيّاً مع أفكارِ الكاتب يسقطُها على نفسِه بطريقةٍ أو بأخرى.
استخدمَ الكاتبُ عباراتٍ مجازيّةً بصيغٍ بلاغيةٍ، وصورٍ شعريةٍ، فللغيومِ فراشاتٌ، وفي نصّ آخر للغيومِ صدرٌ يتعربشُ ضوءَ النجومِ عليها، وللسّماءِ أهدابٌ، وللهدوءِ زنٌد، وللرّيحِ لسانٌ، وللشّارعِ أقدامٌ، وللّيلِ أجفانٌ، وللفجرِ جدائلٌ، وللتّعبِ عطرٌ، هي لغةٌ على نحوٍ غير مألوفٍ تستدرجُ خيالَ القارئِ وتشاكسُ فكرهُ وتأخذهُ بعيداً.
كان للشمسِ حضورٌ حسب العاطفةِ فهي نورٌ خلفَ الأبوابِ المقفلةِ، وفي “الوجه الآخر” تتوثب لملاحقةِ جباههم المتعبةِ في صورةٍ حركيةٍ تلاحقُ بائعي البسطاتِ، والشمسُ تحاولُ النهوضَ في ” ورقة تنتظر العبور”.
استخدمَ كلمةَ طرابيش للدلالةِ على الفاسدين وليظهرَ زيفَ الواقعِ وصنّفها حسبَ الألوانِ، فهناك طربوشٌ أحمر وآخرُ أصفر، واعتبرها مرضاً.
استطاعتْ نصوصُ وقصصُ المجموعةِ أن تهشّم قبضةَ البحرِ وتشقّ صدرَ الحجرِ وتعزفُ موسيقى الدّمِ.
تنتهي نهايةً مفتوحةً غالباً وساخرةً أحياناً أخرى، وتعالجُ مواضيعَ حياتية، في قصة “زمن خاطئ” يعالجُ مشكلةَ الطلاقِ، وفي زواجِ الأقاربِ يصفُ دوّامةَ الزّواجِ بدائرةِ الموتِ البطيء.
هناك كلماتٌ كثيرة فقدتْ خواصَّها، لم يعدْ الليلُ والنهارُ كما عهدناهم وغدا العقلُ مجروحاً، وماءُ الأملُ ملوثٌ، مسحةُ الإحباطِ غيّرت من خواصّ الكائناتِ، يقولُ في”حالةٍ خاصة” كُل شَيْءٍ تَغَيَّر يَا صَدِيقِي إلَّا جِلْدَ زَمَنِنَا الصدئ لأنَّهُ بِحَاجَةٍ إِلَى جُرْعَة مِنْ الشُّجَاعَةِ.
السّاردُ يستيقظُ على صباحاتٍ ذابلةٍ، لا يستطيعُ أن يهنأ بالبنفسجِ والياسمين، أما الشخصياتُ فتحملُ أملاً قصيراً تكسرُ عنفوانَه الطرابيشُ الفاسدةُ، يجفّفُ أمنياتِها زمنٌ صعبٌ، يتكررُ ذكرَ الزمن بصورٍ تفقدُه استمراريته، يعاندُ الزمنُ مسارَ الحياةِ، هو زمنُ ضياع الإنسانية، فهل كسرت الهزائمُ إنسانَ هذا العصرِ؟ يجيبُ الكاتبُ: رغمَ ذلك لم يصلْ بعد اليبابَ إلى قلوبنا، يرفضُ الكاتبُ الاستسلامَ و يقدمُ الحلَ : عَلَيْنَا أَنْ نبتكرَ الطَّرِيقَةَ الْمُنَاسَبَةَ لِتَحْطِيم الْحُرَّاس لتلامسَ أَيْدِينَا أَطْرَاف أَقْدَام السَّعَادَة المنشودة وَإِلَّا سنبقى رَافِعِي رَؤُوسِنَا لِلسَّمَاء نَنْتَظِر زخاتٍ مِنْ السَّعَادَةِ الَّتِي لَن تَأْتِي أبداً إذَا لَمْ نُبَادِر نَحْن..
وما الأوجاعُ التي صقلَت الشخصيةُ السرديةُ في النصوص إلا أوجاعَ اللجوء، فقدنا الوطنَ ففقدنا الإحساسَ بجمالِ الكائنات، كل شيءٍ مختلفٌ خارجَ الوطنِ، وكأن كلَّ نصٍّ من النصوص يسجّلُ مشهداً من مشاهدِ الفجيعةِ، بعض تلك المشاهدِ واقعية بأسماء الشخصياتِ الحقيقيةِ وأحداثها المأساويّةِ، ففي قصّة “جَنِين غراد” يذكرُ أسماءَ شهداءِ معركة المخيّم، ويتناولُ بطولاتهم.
يحتاجُ الانسانُ للاتّزان ِ للدّوران، في مداراتِ امرأة يدورُ الكاتبُ بالقارئ حولَ الحياة، المرأةُ قد تكون الحياة نفسها وقد تكونُ شريكةَ الأملِ، وقد تكون رفيقةَ الطّريقِ، يقدّمُ الكاتبُ المرأةَ بشفافيّة، تجدُها في نهايةِ بعض القصصِ تهمسُ برفقٍ، تربَت على الكتفِ الموجوعِ وتستمرُ بالبوحِ.